أبو العلاء المعرّي خير من المتنبّي
أبو العلاء المعرّي خير من المتنبّي
بسم الله الرحمن الرحيم
في مقال سابق عن المتنبّي مبنيّ على فكر أوثق نقّاده (طه حسين) نفيْتُ عنه ما ألصقه به متأخّروا القوميّين العرب – زوراً – من الكرامة والعزّة، إلاّ مجرّد الادّعاء العربي العصري حيث لا عزّة ولا كرامة.
وقارنت – من نقد طه حسين – بين تسخير المتنبّي شعره للتّسوّل على أبواب الأمراء في استجداء مال أو ضيعة أو إمارة، وبين اعتزال المعرّي الأمراء والعامّة خمسين سنة، وصيانة شعره من التّزلّف والتّسوّل والتّذلّل.
وقال طه حسين تجاوز الله عنه: (والمتنبي حكيم ينتحل الحكمة ويتكلّف الفلسفة، وأبو العلاء المعري حكيم حقّاً وفيلسوف لا يعرف التّكلّف ولا الانتحال؛ والمتنبّي متكسّب بشعره، وأبو العلاء لم يذق لشعره ثمرة مادّية في حياته؛ والمتنبي محبٌّ للدّنيا متهالك عليها، وأبو العلاء مبغض للدنيا زاهد فيها مزدر لطلاّبها؛ ولقد ظلّ أبو الطّيّب يكدح طول حياته في طلب الدنيا حتى قتَلَتْه، بينما ظلّت الدنيا تكدح في طلب أبي العلاء حتى قتلها). [مجموعة مؤلفات طه حسين جـ 10 ص226-227، دار الكتاب اللبناني، ط1].
ولكنّ المعرّي – مثل المتنبّي – اتّهم بالانحراف عن صراط الله المستقيم؛ ورُوِيَ عن شيخ السّلفيّين في دمشق، (ويكاد أن يكون السّلفيّ الفرد) محمد بهجة البيطار رحمه الله أنّه حضر مجلساً كفّر فيه بعضُ جلسائه المعرّي فاغرورقت عيناه بالدّموع وقال: أتركوه فقد لقي ربّه، وعندما زرنا دمشق أوّل مرّة عام1374 (أخي صالح وعثمان رحمهما الله وأنا ولا أقول: أعوذ بالله مِنْ قول أنا مع العوام وأشباههم) لم نجد سلفيّاً غيره له علينا حقّ الزّيارة، وكانت دول المنتمين للسّنّة منذ عصر ابن تيمية تكتم أنفاس السّلفيّة والسّلفيّين، واشتهر منهم قبله جمال الدّين القاسمي رحمه الله (تـ1332) واتّهمه المبتدعة المنتمون للسّنّة بأنّه على طريقة جديدة في الدّين سمّوها الجماليّة (كتهمة الوهّابيّة قبلها والجاميّة بعدها، تشابهت قلوبهم وألسنتهم)، وسُجِن حتى ظهرت براءته.
ولعلّ الرّواية عن شيخنا البيطار رحمه الله هي التي أعادتني للنّظر في نقد طه حسين رحمه الله للمعرّي (وهو المنافس للمتنبّي (303-354) والمعجب به والمقتبس منه، ولكنّه – في رأيي – أكرم خلقاً وأقرب للحقّ والعدل):
أ – ولد المعرّي (عام363) في معرّة النّعمان من بلاد الشام وتوفّاه الله فيها (عام449) وأخذ الله بصره في السّنة الرابعة من عمره بسبب مرض الجدري.
قال الذّهبي رحمه الله في سير أعلام النّبلاء: (هو الشيخ العلاّمة شيخ الآداب أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان… وكان قنوعاً متعفّفاً، وله وقْفٌ يقوم بأمره [غلّته/30 ديناراً في السّنة يصرف نصفها لخادمه] ولا يقبل من أحد شيئاً، ولو تكسّب بالمديح لحصّل مالاً ودنيا، فإنّ نظمه في الذّروة يُعَدّ مع المتنبي والبحتري، وارتحل إلى طرابلس واجتاز باللاذقيّة فنزل دَيْراً به راهب متفلسف، فدخل كلامه في مسامعه، وحصلت له شكوك لم يكن له نورٌ يدفعها، ويقال: تاب من ذلك وارعوى).
قال الذّهبي رحمه الله: (خرج صالح بن مرداس ملك حلب إلى المعرّة يحاصرها ورماها بالمجانيق، فخرج إليه أبو العلاء يتشفّع فأكرمه، وقال: ألك حاجة؟
فقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، فقال: قد وهبتك المعرّة)، فقال بَعْدُ:
نجّى المعاشر من براثن صالح==ربٌّ يداوي كلّ داء معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضــة==الله أولاهم جناح تفضّـــــــل
بـ – ذكر الذّهبيّ بعض ما نُقِل عنه من الإلحاد شعراً ونثراً، لا يسرّني نَقْلُ شيء منه فأكون ساهمت في إشاعة ما هو أعظم من الفاحشة.
ويظهر لي من مجموع ما نُقِل عنه أنّه (قبل اعتزاله النّاس في الخمسين سنة الأخيرة من حياته) شكّ في دينه وضلّ عن الصّراط المستقيم ولكنّه في كهولته ثم شيخوخته عاد إلى رشده، تجاوز الله عنه.
جـ – يستدلّ طه حسين على توبة المعرّي في عزلته بمثل قوله:
بوحدانيّة العــلاّم دُنَّـــــا== فذرني أقْطَع الأيّام وحــــــدي
وبمثل قوله:
توَحَّدْ فإنّ الله ربّك واحد== ولا ترغبَنْ في عشرة السّفهاء
وبمثل قوله:
إنفرد الله بسلطانــــــــــه== فما له في كلّ حال كفـــــــــاء
ما خفيَتْ قدرته عنكُـــــمُ==وهل لها عن ذي رشاد خفـــاء
وبمثل قوله:
ففضّ زكــاة مــــــالك غير آب==فكلّ جموع مالك يَنْفَضِضْنَــــهْ
وأعجز أهل هذي الأرض غاوٍ==أبان العجز عن خمسٍ فُرِضْنَهْ
وصُمْ رمضان مختاراً مطيـــعاً==إذ الأقدام من قَيْض رَمِضْنَـــهْ
وبمثل قوله عن أبيه:
فياليت شعري هل يخفّ وقـــاره==إذا صـار أُحْدٌ في القيامـة كالـعِـهْــنِ
وهل يَرِدِ الحوْضَ الرّويَّ مبادراً==مع النّاس أم يخشى الزّحام فيستأني؟
وبمثل قوله:
إذا قومنا لم يعبدوا الله وحــــــده==بنصحٍ فإنّا منهمُ بــــــــــرءاء
وبمثل قوله:
قضـى الله فينا بالذي هو كـــائنٌ==فتمّ وضاعت حكمة الحكمــاء
وهل يأبق الإنسان من مُلْك ربّه==فيخرج من أرض له وسماء؟
د – ولا يرى طه حسين في كتاب أبي العلاء(الفصول والغايات) ما رأى فيه بعض نقّاده من قصده معارضة القرآن الكريم واستجابة التّحدّي بالإتيان بسُوَر أو آيات من مثله (فقد كان أشدّ تواضعاً من أن تبلغ به الكبرياء هذا الحدّ، وكان أعقل من أن يطاول ما لا سبيل إلى مطاولته)، ويرى أنّه نظر إلى القرآن على أنّه مثلٌ أعلى في اللغة فحاول أن يقلّده فلم يفلح، وكانت النّتيجة سَجْعاً كسجع الكهّان.
وأعْجَبُ كيف دافع طه حسين عن المعرّي كثيراً ممّا اتُّهِم به، ثمّ اتّهمه بإسقاط فرض الحجّ ص441 لقوله:
أقيمي لا أعُدُّ الحجّ فرضاً==على عُجُزِ النّساء ولا العذارى
مع أنّ المعرّي خصّ النّساء وعلّل حُكْمَه بما نقله طه حسين ص527:
ففي بطحاء مكة شرّ قوم==وليسوا بالحماة ولا الغيارى
وإنّ رجال شيبة سادنيها==إذا راحت لكعبتها الجمـــارا
قيام يدفعون الوفد شفعـاً==إلى البيت الحرام وهم سكارى
إذا أخذوا الزّوائف أو لجوهم==ولو كانوا اليهود أو النّصارى
فعلى منهج طه حسين في نقده وبرِّه بالمعرّي كان أحرى به أن يلتمس له العُذْر بعدم أمن الطريق ولا البلد الحرام، وكان أهل مكة في أسوأ حال في الجاهلية ثم في زمن البعثة قبل الفتح، وهذه شهادة المعرّي في القرن الرابع أو الخامس، وقال ابن تيمية في القرن السّابع أو الثامن: (وأما سُكّان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله) الفتاوى ج28 ص533. وعندما اعتَمَرْتُ أوّل مرّة قبل 67سنة بدا لي منها أكثر ما بدا لابن تيمية وبعض ما بدا للمعرّي، وقد طهّر الله بيته بدولة آل سعود السّلفيّة حفظها الله قدوة صالحة، ولكنّ ذلك لم يمنع العجائز ولا العذارى من الحجّ والعمرة إلا بظلم من ولاة الأشراف للجميع.
وقال شوقي يشكوا حال مكة إلى سلطان الخرافة العثمانية:
ضجّ الحجاز وضجّ البيت والحـــرم==واسْتَصْرَخَتْ ربّها في مكّة الأمــم
قد مسّها في حماك الضّرّ فاقْضِ لها==خليفة الله أنت السّيّد الحَـكَـــــــــــم
أهين فيها ضيوف الله واضْطُهِـــدوا==إن أنت لــم تنتقم فالله منتقـــــــــــم
أفي الضحى- وعيون الجند ناظرة-==تسبى النّساء ويؤذى الأهل والحشم
ويسفك الدّم في أرض مقدّســـــــــة==وتستباح بها الأعراض والحُـــرَم؟
وقبله قال مثل هذا وزاد عليه: ك. سنوك هور خرونيه، هداه الله فاعتنق الاسلام وقضى في مكة قريباً من نصف سنة يدرس أحوال اهلها وكتب عنها كتاباً بعنوان الترجمة: (صفحات من تاريخ مكة المباركة) لا أظنّ أحدا كتب مثله من العرب أو العجم ونشره نادي مكة الثقافي عام 1411 ودارة الملك عبد العزيز رحمهما الله عام1419، وظنّ كثيرون ظنّ السّوء فاتّهموه ككلّ مسلم أوروبي بأنّه محتال دُوْن البحث عن بيّنة كما أمر الله عباده المؤمنين، وتمعّر قلمه لما رأى من وثنيّة المقامات والمزارات والمشاهد والأضرحة ووثنيّتها وأوثانها بما لم أرها تمعّرتْ به أقلام أكثر المسلمين ومنهم المعلِّق على الكتاب غير أنّه ظنّ أنّ الكاتب أخطأ بعزوها إلى الجاهلية فعزاها إلى الفاطميّين، والكاتب أقرب إلى الصواب، فقد كانت بدايتها في قوم نوح كما روى البخاري من تفسير ابن عباس لقول الله تعالى: {وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّأً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا} وسبق الفاطميين إلى هذه الوثنية البويهيّون، ولعلّ هارون الرشيد أول من جدّدها، وقبله عمرو بن لحيّ، ولم يُذْكَرْ من الولاة من أنكرهاغير المتوكل ولم يُقِمْ دولته على هدمها غير آل سعود أثابهم الله.
ولم يتمعّر لها قلم حمد الجاسر تجاوز الله عنه فيما نقله عنه المعلِّق من ظنّه استحالة لُبْث النساء ثلاثة أيام عند هذه الأوثان لأنه انصرف عن علوم الشريعة إلى الجغرافيا والتاريخ وبالتالي انصرف عن اليقين إلى الظّنّ عفا الله عنه، ولا عبرة بظنّه فالكاتب ثقة في نقله ما رأى هو، ولم يره بل ظنّه حمد الجاسر، والله أعلم.
هـ – ومن مناجاته لله في (الفصول والغايات):
(أدعوك وعملي سيّء ليحسُنْ، وقلبي مظلم لكي ينير، وقد عدلْتُ عن المحجّة إلى بنيّات الطريق، وأنت العدل ومن عدلك أخاف، وإن كان الدّمع يطفئ غضبك فهب لي عينين كأنهما غمامتا شتى تبلاّن الصّباح والمساء، واجعلني في الدّنيا منك وَجِلاً لأفوز في الآخرة بالأمان).
ز – وُلِدَ المعرّي في بيت علم، وتولّى القضاء طائفة من أهله منهم أبوه وجدّه وعمّه، وطائفة بعدهم، وقرض عدد منهم الشعرفأجادوا.
واستنبط طه حسين من شعر المعرّي ونثره ثلاث خصال في أخواله تميّزوا بها: 1) كثرة التّرحال، 2) كرم النّفس وسخاؤها بالمال، 3) حبّ العلم والنّبوغ فيه.
وظهر أثر ذلك في نبوغ المعرّي، ولكنّه استبدل الذي هو أدنى: الأدب والفكر، بالذي هو خير: العلم الشرعي. ولم يفارق المعرّة إلاّ قليلاً، واختار العزلة أكثر حياته ولكنّ النّاس لم يعتزلوه فأتى إلى بيته طلاب العلم من كلّ صَوْب ليأخذوا عنه ما يتعلّق باللّغة العربيّة وآدابها فلم يردّ أحداً منهم، وربّما أخذ العزلة والتّقشّف (في المنزل والمأكل والملبس) من الفلسفة الهنديّة، ومنها الامتناع عن أكل اللّحوم.
حـ – أخذ علوم اللغة عن أبيه في المعرّة، وفي حلب عن محمد بن عبد الله بن سعد النّحوي، وأخذ شيئاً من السّنّة عن يحيى ابن مسعر، ولم يظهر عليه من دراسته الحديث شيئاً ممّا ظهر عليه من دراسته اللّغة فبرز فريداً في لغته وشعره ونثره وإملائه.
ط – وكان غذاؤه العدس والزّيتون والدِّبْس والزّيت، وحلواه: التّين، وثيابه: القطن، وفراشه: لباد للشّتاء وحصير للصّيف، وفيه قوّة نفس.
وكان يحفظ كلّ ما مرّ بسمعه، وسَمَّى نفسه رهين المحبسين للزومه منزله ولكفِّ بصره، ولم تُرْضِه كنيته: أبو العلاء فقال:
دُعِيتُ أبا العلاء وذاك مَيْن==ولكنّ الصّحيح أبا النزول
وكان يملي تصانيفه على طلاّبه من صدره.
ي – وعاب نفسه، وعاب زمانه وأهل زمانه كأكثر أهل الفكر والجهل، ومن ابتلي بذلك قلّ (أو عُدِمَ) شكره لله تعالى على نعمه التي لا تحصى على عباده وأعظمها نعمة الدّين ثم نعمة العقل. ويظهر من شعره بعد اعتزاله خوفه من حساب الله وجزائه في الآخرة، وخوفه من نقد النّاس شعره ونثره (فيما يتعلّق بتديّنه بخاصّة).
ولعلّ شيخنا البيطار رحمه الله ترجّح عنده أنّه تاب إلى الله بعد اعتزاله النّاس، ورجا الله له قبول توبته.
ومثله: عبد الله القصيمي تنقّل بين الدّفاع عن الدّين الحقّ ثم مهاجمته ثمّ تعدّدت الرّوايات عنه أنّه رجع إلى الله قبل موته، تجاوز الله عمّن تاب وأناب إليه.
وبقِيَتْ مؤّلّفات المعرّي والقصيمي وفيها السّمّ الزّعاف ومن حقّهما على المسلمين أن تمزّق وتحرّق فلا يضلّ بها غير من ضلّ بها من قبل، ولكن الفكر (الهوى) يسعى حثيثاً للمحافظة على الآثار الضّالّة: شعراً أو نثراً أو وثناً. ردّنا الله إلى دينه ردّاً جميلاً.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن عفا الله عنه في 1435/7/15هـ.