أخي في الدّين والوطن والنسب/ صالح الحصيّن رحمه الله
أخي في الدّين والوطن والنسب/ صالح الحصيّن رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أكاد أستحضر صورة والدنا الأخ/ صالح رحمه الله إلاّ وهو يقرأ أو يصلّي أو يذكر الله تعالى، ولا أذكر مرّة واحدة أنّه شارك الصّغار أو الكبار في لهوهم أو لعبهم أو نافسهم في جِدِّهم أو هزلهم، مرّة واحدة أخذ حجراً تقليداً لطفل في سنّه ورماه فأصاب – من غير قصد – واحداً من شباب الأسواق الغلاظ الشِّداد فكاد أن يبطش به، ولكنّ الله كفاه شرّه فاكتفى بتهديده أنّه: (لولا أنّ أبوك يحبّني ما تركتك)، وسألنا الوالد رحمه الله هل يحبّه؟ فأجاب: ما أنام الليل من حبِّه.
ولم يلتفت والدنا صالح رحمه الله إلى الفنون ولا الرّياضة الخاصّة أو العامّة إلا أنّنا كنّا في مصر نشاهد الأفلام الأمريكيّة المختارة كلّ يوم فلم يكن رحمه الله مثل كثير من العوامّ وطلاب العلم بل العلماء يتعبّد لله احتياطاً بتحريم ما لم يحرِّمه الله، بل أذكر أنّه اتفق مع د. عبد العزيز الخويطر على استعمال الفِدْيُو -يوم كان منكراً أكثر من الشّرك الأكبر- لعلّ الأطفال يكتفون بمشاهدة الأفلام المختارة عِوَضاً عن مسلسلات التّلفزيون الرّديئة غالباً، واقتبست من فقهه فاستدركت على الشيخ بن باز رحمه الله -في برنامج نور على الدّرب- ظنَّه أنّ التقاط الصُّوَر آليّاً يشمله لفظ التّصوير وحُكْمه في الحديث ولعن فاعله؛ لخطأ تسميته تصويراً.
وصالح -مثل كثير من العلماء السّابقين رحمهم الله- لا يضيِّق ما وسّع الله تعالى على عباده، ولكنّه يخالف ابن باز رحمه الله في مثل توسعته على أهل نَجْد في اعتيادهم في هذا القرن الاجتماع في بيت الميّت للعزاء لحديث جرير رضي الله عنه أنّهم كانوا يعدّونه من النّياحة.
وكانت القراءة أهمّ ما يشغل والدنا الأخ صالح في يومه، أمّا ليله فهو يحرص على النّوم بعد صلاة العشاء وبلفظه: يبدأ في فكّ أزرار ثوبه عند خروجه من المسجد، وعرفته منذ عشرات السّنين يقوم آخر الليل ويطيل القراءة ويجهر بها، وانشغل بدراسته في مصر قبل (55)سنة فخشي أن يتفلّت عليه حفظ القرآن، وكان قد حفظه وعمره نحو (12)سنة على الشيخ اسحق كردي رحمه الله، سعوديّ من أصلٍ كرديّ من ديار بكر، توفّاه الله ولم يتخلّص من عُجْمته الكرديّة، وهو مَنْ علّمنا الخطّ، وكنت أجده في المسجد النّبويّ يقرأ القرآن في المصحف فيقول لي: هذا كُحْلُ عيني، رحمه الله وأصلح مَنْ بعده، وتدارك الأخ صالح حِفْظه مع عامل يامِيٍّ في الحرم.
كان كتاب البداية والنّهاية لابن كثير رحمه الله أحد الكتب في مكتبة الوالد رحمه الله فكان من أوّل ما قرأ، وكان يتدارسه مع زميل له في الابتدائية لعل اسمه: محمد بن سليمان بن دويهس رحمه الله (وقد يكون الاسم الأخير لقباً، فلم أره منذ سبعين سنة).
وأتذكّر من كتب الوالد رحمه الله: زاد المعاد لابن القيّم ورياض الصالحين للنووي، وتفسير ابن جُزَيّ، واستعاره أخ عزيز فأكلت بقرته جزءاً منه فاستفادت منه أكثر منّي، وأهدينا المخطوطات لمكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة.
لا أذكر أنّ والدنا الأخ صالح رحمه الله شارك في أيّ تسلية غير القراءة إلاّ أنّنا ذهبنا مرّة معاً لصيد الجراد بعد صلاة الفجر، ومرّة لرؤية السَّيل حين يصبّ وادي الغدير في قليب الحميضيّة، ولم تُنْسِينه إقامتي أياماً عند شلاّلات نياكرا في كندا، ومثلها في أمريكا بعد ثلاثين سنة، ولكن تَمَتُّعنا بمشاهدة شلاّل الحميضيّة – وادي الغدير انتهى بمصيبته؛ فقد تركنا أخي عبد العزيز (7-8سنين) يصرخ في البيت ورفضنا اصطحابه لمشاهدة السّيل، إمّا لصغر سنّه وإمّا لمرضه (اختلفت الرّوايات) ولم يقمْ من فراش قَهْره أو مرضه، وتحمّل الوالدان مصيبتهما بصبر وصمت، عوّضهما الله عنه وعوّضه عن حياته بالفردوس من الجنّة.
وكنت ألهث وراء أخي بسنتين من الزّمن وبسنوات عديدة من حسن الخلق والصّبر والتّحمّل والحلم والزّهد في الدّنيا، فلم أدركه في مدرسة ابن حنطى رحمه الله (1359)، وأدركته في الابتدائيّة (62و1363) و(1368) في دار التّوحيد في الطّائف، ولم أدركه في كلّيّة الشّريعة إذ طلبه الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله للتّدريس في المعهد العلمي (الدّيني) في الرّياض.
وفاجأني في سنتي الثّانية في الكليّة (1374) بعرض مرافقتي له في السّفر إلى مصر ثالثاً له ولأحد زملائه في كلّيّة الشّريعة بمكّة المباركة، ولعلّه لم ينس عاقبة ترك عبد العزيز رحمه الله وراءه، ولعلّه رغب في التّعرّف على طريق الدّراسة في مصر، ولكن الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله كان يرفض طلبه في كلّ مرّة، فذهب مُغاضباً ولم يحصل على حقّ الموظّف في الابتعاث بنصف راتبه، وقُبِل في البعثة براتب طالب، ولما ظهر لمعهد الدّراسات العليا (الذي يدرس فيه) تميّزه صُرِفَت له مكافأة شهريّة من المعهد فلم يُرْض بعض الإداريّين في البعثة حصوله على مكافأتين فقرّروا نقص مرتّبه بقدر مكافأة المعهد، ولم ينتقم ممّن ظلمه إلا بوصفه: (قْطِيْو).
ومع وقوف الشيخ محمد بن ابراهيم في طريق دراسة والدنا الأخ/ صالح رحمهما الله كان الشيخ أحَدَ الذين يميّزهم بالثّناء وأذكر منهم الأمير/ مساعد بن عبد الرحمن رحمه الله وعبد العزيز القريشي رئيس مؤسّسة النّقد السّابق ود. أحمد بن محمد علي رئيس بنك التّنمية في جدّة وفقهما الله، ويجمع بين الثلاثة في رأيه حسن الخلق (المعاملة) والصبر والحلم والجِدّ والأمانة.
كانت درجة الماجستير في القانون أو غيره يكفيها في المعهد (3)سنوات وأضاف سنتين ليتمكّن من قراءة ما يحتاج إلى قراءته في مكتبات مصر، ولن يجد أكثرها في مكتبات المملكة المباركة (ما يتعلّق بدراسته بخاصّة) كان د.محمد بن أحمد علي مديراً لمعهد البيحاني في عدن على نفقة السّعوديّة ولكنّ حاجة المعهد من الكتب الدّينيّة وما دونها لا يحصل عليها إلاّ من مصر مهما كثُرتْ وبدون مقابل، وهذا في عهد جمال عبد النّاصر رحمه الله الذي جعلته دعاية حزب الاخوان شيوعيّاً مُلْحِداً في رأي الأكثرين حتى اليوم.
وعندما عاد والدنا الأخ صالح رحمه الله من مصر طُلِب للعمل مديراً للإدارة القانونيّة في وزارة الماليّة، وعمل فيها حتى عُيِّن (1391) وزيراً للدّولة عضواً في مجلس الوزراء في عهد الملك فيصل رحمه الله ليؤسِّس ويرأس هيئة التّأديب.
وقال محرّر جريدة السّياسة الكويتيّة: إنّ تعيين مثل صالح الحصيّن جدير بأن يرفع أسهم الملك فيصل في الدّاخل والخارج، وأشهد لله شهادة حقّ لا تحيُّز فيها أنّه أهل لذلك وأكثر، ولكنّه حييٌّ كريم، وأحبّ ما إليه أن يُتْرك وحده مع كتاب يقرؤه للفائدة أو للتّسلية وهي فائدة، وأَعْجَبَه أنّه ذهب مرّة مع زميله الأستاذ عبد الوهّاب عبد الواسع وزير الأوقاف والحجّ رحمه الله برفقة سموّ الأمير متعب لزيارة الملك فيصل رحمه الله، ولما انتهت زيارتهم وانفرد عبد الوهاب بالأخ صالح قال له: صدق من قال: (السّعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه)، وإذا كان عبد الوهّاب صديق الملك فهد رحمه الله يرافق الأمير متعب لزيارة الملك فيصل، ويرى السّعادة في البُعْد عن تكاليف الزّيارة الرّسميّة؛ فكيف بالأخ صالح؟ لقد قضى ثلاث سنوات يحاول التّخلّص من هذه الوظيفة التي يتمنّاها الأكثرون ولمّا مرّت سنتان ولم يأذن الله بالفرج طلب إعفاءه من حضور الحفلات الرّسميّة وواجبات الاستقبال والتّوديع، ولعلّه أوّل مَنْ طالب ومن أعْفِي.
ثم أُطْلق سراحه بعد السّنة الثالثة 1394 بشفاعة الأمير/ مساعد بن عبد الرحمن رحمه الله وانْفَكَّ مما يصعب عليه تحمّله من مظاهر الوظيفة الوزارية، واستمرّ في تقديم أيّ جهد يطلبه ولاة الأمر للمصلحة العامّة تطوّعاً، وأمر الملك فهد في أوّل عهده مع الملك خالد رحمهما الله بتخصيص مكتب له في مجلس الوزراء، ولم يستعمله يوماً واحداً، كان يفضّل العمل في البيت والكتابة على ركبتيه كما فعل الوالد رحمه الله وكما أَفْعَلُ حتى اليوم تشبّهاً بهما وبمن قبلهما من أهلي.
وجرت محاولات لعودته للعمل الحكومي، ولكنّه كان يعتذر بعجزه عن ذلك.
ولكنّ الملك عبد الله لم يقبل هذا العذر فهو يعرفه منذ عشرات السّنين ويعرف تميّزه في العلم والعمل والزّهد في المال والشّهرة فألحّ عليه إلحاحاً شديداً عام1424 ليقبل العمل رئيساً لشؤون المسجد الحرام والمسجد النّبويّ ولو لمدّة سنتين وامتدّت إلى (12)سنة حتى أعجزه مرض الموت عن مباشرة العمل، وأسند إليه العمل رئيساً (لا أقول كرئيس) لمركز الحوار الوطني، ثمّ عيّن عضواً في هيئة كبار العلماء أثناء قيامه برئاسة شؤون الحرمين.
ومن الأعمال الجانبيّة التي تولاّها من قبل: عضويّة المجلس الأعلى للجامعات، وعضوية مجالس عدد من الجامعات والاشراف على لجنة الخبراء بمجلس الوزراء.
ومن أعماله التّطوّعيّة غير الرّسميّة: نائب رئيس الهيئة الخيريّة العالميّة في الكويت، وعضويّة اللجنة الشرعيّة في مصرف الراجحي وهو يعرف أنّه اختير للأخيرتين لاجتذاب التّبرّعات والمستفيد الأول وربما الأخير من نفقاتهما الخيريّة: حزب الإخوان المسلمين، ولكنّه يسرّه أن يستفيد منه أيّ مسلم، فردٌ أو جماعة، ولعلّه ينفّذ ما يُرْوى من الأثر: بأنّ (من خدعنا بالله انخدعنا له)، وقد شهدت ثلاثة من المخدوعين بفكر حزب الإخوان (توفيق وعبد الإله وابراهيم) يطلبون منه تزكية لمرشحهم للأمانة العامّة للنّدوة العالميّة للشباب الاسلامي حتى لا تخرج من سيطرة الحزب الإخواني منذ نشأَتْ حتّى اليوم.
وكان رحمه الله واسع الاطلاع في كلّ علم وفنّ وكلّ خبرة تهمّه إلاّ ما شاء الله، ويوظّف عقله فيما يدرسه مما لم تحدّه حدود الشّريعة.
وكان برّاً بوالدتي رحمهما الله يتبعها حيث ذهبت وفاز بخدمتها أكثر منّا حتى توفاها الله لم ينافسه منّا في متابعتها وخدمتها غير زوجته أمّ عبد الله ابن صالح منذ تزوّجها عام (1368) حتى توفّى الله الوالدة عام (1417) لم يفترقا في حضر ولا سفر حتى آن السّفر الأخير من الدّنيا، أثابهم الله الفردوس من الجنّة.
أمّا الوالد فقد فاز بخدمته أخونا الأكبر سنّاً: عبد الله وابراهيم من زوجته الأولى رحمهم الله وأثابهم رؤيته في الآخرة.
وعندما توفّي الوالد ثم الوالدة وبينهما والدنا الأخ ابراهيم وغيره من الأهل لم نتكلّف سفراً ولا (فَتْح بيت للعزاء حسب التّقليد المبتدع)، وكان والدنا الأخ صالح رحمه الله أكثر حِرْصاً على تجنّب ذلك، بل إنّ أخي عبد الله لما اضطرّ إلى استقبال المعزّين في الأخ صالح، اتّصل بي بعدها لتذكيري بأن نوصي بتجنّب مثل ذلك في المستقبل لما عاناه المعزَّى والمعزِّي من تكلُّف لم يكتبه الله على عباده، بل تجنّبه وكرهه خير هذه الأمّة وعَدُّوه من النياحة وقد وصفها النبيّ صلى الله عليه وسلّم بالكفر (أي: العملي) وكان والدنا الأخ صالح رحمه الله لا يهتمّ أبداً للمال ولا لنتائجه الشكليّة بخاصّة فلم يشتر ساعة ولا سيّارة ولا ما بينهما من الآلات المستوردة ممن يوصفون بأعداء الاسلام والمسلمين بلا ضرورة، ثم يحثّ الحركيّون غيرهم على (مقاطعة بضائع الكفّار)، ولم يشرع الله مقاطعة بضائع الكفّار، بل مقاطعة الإسراف.
وأشرَكَنا رحمه الله في المال، والرّزق يأتيه دون أن يتكلّف طلباً له، واشترط ألاّ نأخذ منه إلاّ بقدر الحاجة (دون إسراف ولا مخيلة)، ويجتهد في صرف الفائض للمحتاجين إليه (في الخارج بخاصّة)، بحيث لا توجد حاجة لحساب الزكاة، ولا للأسى على ما فاتنا أو خَسِرْنا أو أُخِذَ خديعة أو سرقة من مال الله عندنا.
وأعطاه الله من محبّة عباده وثقتهم وتقديرهم -رعاةً ورعيّة- ما أرجوا الله أن يكون من عاجل بشرى الله لعبده المؤمن.
ولا أعرف أحداً بعد ابن باز رحمه الله جمع الله له العلم والعمل وحسن الخُلُق والزّهد في الدّنيا والعبادة ودوام الذّكر والشكر لله والاعتماد عليه غير والدي الأخ صالح غفر الله لهما وأسكنهما الفردوس من الجنة.
وقد فقدت جزءاً من نفسي بفقده رحمه الله، فقد عشت في ظلِّه منذ عرفت نفسي -ديناً ودنيا- منذ كنّا نعيش في غرفة واحدة في شقراء ثم في دار التّوحيد ثم في مصر للدّراسة ثم في الرّياض للعمل ثم في مكة المباركة، ويخفّف من فقدي له مع جزء من حياتي أنّي غير بعيد من اللحاق به في واسع رحمته بفضله ومنّه وعفوه.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن بمكة المباركة في 1435/4/7هـ.