تعدّد الجماعات الدينية خروج عن الجماعة

تعدّد الجماعات الدينية خروج عن الجماعة

بسم الله الرحمن الرحيم

قرأت مقالاً عن الجماعات الإسلامية في مجلة الفرقان الكويتية العدد الخامس شوال 1409هـ بتوقيع عبد الرحمن عبد الخالق ما ظننت أن قلمه يتحمّل وِزْرَ تسطيره؛ فقد كان هجومًا شَرِسًا على خيرة مشايخه من علمائنا ودعاتنا على بصيرة بسبب مخالفته لهم في الحكم على الانعزال عن جماعة المسلمين ببيعة خاصة ملزمة أو أمير خاص مطاع أو منهج خاص؛ وَصَفَهم (بالعمى وبِقِصَر النظر وبالجهل بالسنة، وبالفتوى الباطلة والقول الجزاف)، وبأنّهم (أوهموا الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُجابِه باطلاً ولا أقْدَم على خطر، ولا أسّس أمّة ولا جماعة، وأنّه حرّم كل تنظيم وترتيب ودعا الناس ألاَّ يتدبّروا أمرًا، وأنّ كلاًّ منهم يجب أن يكون أمّةً وَحْدَه لا يَلْتَزِم بجماعة ولا يطيع رأيًا لغيره، وأن يعيش مع أئمة الفسق والجور على ما يشاؤون ويطيعهم في الطاعة والمعصية) الخ.
ولعل هذا الكلام أُلْقِيَ في خطاب حماسي انفعالي ارتجالي لم ينل حظّه من جانب طالب العلم الداعي إلى الله على بصيرة في شخصية الشيخ/عبد الرحمن عبد الخالق وإنما هو نَزْغٌ من ماضِيه في الحزبية المبتدعة، وصدق الله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، فكتبت له بما يلي:
1- يصعب أن يُصدّق القارئ أن الكاتب كان يقصد الشيخ عبد العزيز ابن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله بن غديان، وعبد الله بن حسن بن قعود، من هيئة كبار العلماء في المملكة المباركة في فتواهم رقم: 1674 في 1397/10/7هـ بعدم جواز تعدّد الجماعات والأحزاب باسم الدّين وفيها ما يلي: (لا يجوز أن يتفرَّق المسلمون في دينهم شيعًا وأحزابًا.. فإن هذا التفرَّق مما نهى الله عنه وذمَّ من أحدثه أو تابع أهله، وتوعّد فاعليه بالعذاب العظيم.. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
أما إن كان وليُّ أمر المسلمين هو الذي نظَّمهم ووزَّع بينهم أعمال الحياة الدينيَّة والدُّنيويَّة فهذا مشروع).
وفي فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (جـ5 ص202ـ204) تأكيد لهذه الفتوى، قال: (مما لا شك فيه أن كثرة الفِرق والجماعات في البلد المسلم مما يحرص عليه الشيطان أولاً وأعداء الإسلام من الإنس ثانيًا).
وفي فتوى للشيخ محمد بن عثيمين: (ليس في الكتاب ولا في السّنّة ما يبيح تعدّد الجماعات والأحزاب [الدينيّة]… ولا شكَّ أن تعدّد هذه الأحزاب ينافي ما أمر الله به)، الصّحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات، إعداد علي أبولوز ص154.
وفي فتوى للشيخ د.صالح الفوزان (التّفرق [إلى جماعات وأحزاب دينية] ليس من الدِّين لأن الدين أمرنا بأن نكون جماعة واحدة وأمَّة واحدة على عقيدة التوحيد وعلى متابعة الرسول) مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري، إعداد د.عبد الله الرفاعي ص44ـ45.
وفي فتوى للشيخ ناصر الدين الألباني: (التحزّب والتّكتّل في جماعات مختلفة المناهج والأساليب ليس من الإسلام في شيء) فتاوى الألباني، جمع عكاشة الطّيبي ص106.
وكلّ كتاب الشيخ د.بكر أبو زيد: (حكم الانتماء للجماعات والأحزاب الإسلاميّة) تحذير من هذا التّعدّد.
2- أخطأ الكاتب تجاوز الله عنا وعنه في خلطه بين الجمعيات الخاصّة التي تُنْشأ لغرض خاصّ (مثل بناء المساجد وحفر الآبار وطباعة الكتب وتوزيعها وجمع وتوزيع الطعام والكساء والمال لسدّ حاجات ذوي الحاجات)، وبين الجماعات والأحزاب المتعددة التي يَفْرَحُ كلٌّ منها بما لديه، ويدّعي أنّه الأفضل والأكمل، ويسعى إلى غلبة منهجه وكثرة عدده وسلطة قيادته، ويربط الناس بطاعة أميره في المنشط والمكره.
3- أخطأ الكاتب عفا الله عنَّا وعنه في ظنّه أن ما يسمّيه (الصحوة الإسلامية والبعث الجديد أثر من آثار الجماعات [والأحزاب] الإسلامية). وما أبعد هذا الظنّ من الحقيقة والواقع؛ فالحق أن يقظة الجماعات والأحزاب من سُباتِها وتزايد عددها في العقدين الأخيرين إنما هو أثرٌ من آثار (الصَّحوة الدينيَّة) لا العكس.
ولعلَّه لا يَعْلم أن ما سُمِّي بالصّحوة الإسلامية جزء من تحرّك دينيّ عام سبق إليه الوثنيّون من الهندوس بفلسفاتهم وتصوّفهم؛ فتلقّفه المترفون في أمريكا وأوروبا، ثم تلقّفه النصارى بنشر ما سُمِّي بالولادة من جديد، ثم تلقّفته الجماعات والأحزاب المنتمية للإسلام كعادتها في التنافس على ما يجذب الناس إليها ويكثّر سوادها.
فُسِّر ذلك في البلاد العربية بهزيمة عام 67 وفَشَل المنحى الاشتراكي القومي، وفُسِّر في غيرها بفشل الرخاء المادي في إشباع تطلّع البشر إلى السعادة، وادّعت كل جماعة أو فرقة مبتدعة بأنها السبب الأول والأخير، والحقيقة أن الأمر كله لله ومنه بلا سبب ظاهر؛ قد يكون مرحلة تمهيدية لأمر يريده الله بهذا العالم، وهو على كل حال فتنة وابتلاء من الله لخير جماعة المسلمين الموحّدين وشر الفِرَق والجماعات والأحزاب الخارجة عنها.
4- ولم يَأمر أحد من علمائنا ودعاتنا على بصيرة (بالطاعة في المعصية) ولم يَنْه أحد منهم عن (بناء المساجد والإغاثة وطبع الكتب وتوزيعها) كما ادّعيتم، بل هم السابقون إليه، ولكنهم ينهون عن الانعزال عن جماعة المسلمين باسم أو مركز أو بيعة أو أمير، أو منهج للعبادة أو الدعوة لم يأذن به الله، وهذا هو القاسم المشترك بين الجماعات والأحزاب والفرق الإسلامية في أغلب الأحوال، وبِمِثْل هذا تَفَرَّق المسلمون شِيعًا وأحزابًا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وكل فرد مُنْتَمٍ إلى جماعة أو حزب أو فرقة أو طائفة خاصّة فهو شِيْعَةٌ لمؤسّسها أو قادتها أو منهاجها المبتدع.
5- وهذه البلاد المباركة تميّزت على جميع بلاد المسلمينـ منذ نهاية القرون المفضلة ـ بتأسيسها من أوّل يوم على التعاون بين العلماء والأمراء على الدعوة إلى التوحيد والسنة ومحاربة الشرك والبدعة ونشر العلم وتشجيع الدعوة على منهاج النبوة المعصومة.
6- وقد (أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم اسم الأوس والخزرج والمهاجرين والأنصار) كما ذكرتم: (وكانت لهم راياتهم في الجهاد) تحت إمرة رسول الله صلى الله  عليه وسلم أو نائبه، ولكن هل تصح المقارنة بين الاسم الأصلي المتَّبِع والاسم المبتدع الانعزالي، وبين الراية المنتمية إلى راية الجماعة والراية المنعزلة عنها محاولة الظهور عليها وانتزاع سلطتها؟
7- ولا يَصِحّ الاستدلال ولا المقارنة بين (تعدّد العلماء وتعدّد الجماعات) كما فعلتم؛ فشرع الله يأمر بالأوّل وينهى عن الثاني.
8- وإذا كان أخي الشيخ/ عبد الرحمن ـ الذي كنت أعرفه ولله الحمد والمنّة بالعلم والعمل، وبظاهر تَرْكِه الحزبية ـ هو الذي كتب هذا المقال فعلاً، فلا شكَّ أن السّبب نزغ من الشيطان فليستعذ بالله منه ولْيُعِد النظر فيما كتب.
9- ولكني لا أزال أرجو الله أن يكون الكاتب حِزْبِيًّا أعماه التّعصب والجهل فَهَبَط إلى حضيض التعدّي على خيرة علماء المسلمين ووصْفِهم بالعمى والجهل والتعصب والحرص الكاذب على الدّين، والافتراء عليهم ـ في محاولة للصعود على أكتافهم ـ بأنهم (حرّموا ما أوجبه الله وألزم به عباده من التّواصي بالحقّ والصّبر والتّعاون على البرّ والتّقوى والاعتصام بحبل الله ودينه).
وعلى أيّ حال فإني أختم بالدعاء أن يعفو الله عنا وعن الكاتب ويهدينا ويهديه لأقرب من هذا رشدًا، وصلى الله وسلم على محمد وآله ومتبعي سنته.