لزوم ما لا يلزم في الدين
لزوم ما لا يلزم في الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
كتبتُ من قبل عن (لزوم ما لا يلزم في التعليم) مثل: رياض الأطفال التي ابتدعها الأوربيون لتُخلِّص الأم العاملة من مسئولية رعايتها لأطفالها دون سن التعليم، ومثل: اللغة الأجنبية التي وَضَع بها التقليد الأعمى عقبة في طريق طالب العلم الشرعي والظّنّي والمهني قد تحول بينه وبين مواصلة التعليم إذا كان من قَدَر الله عليه عجزه عن تعلّمها، ومثل: الحاسوب ضمن وقت التعليم العام ولا نتيجة له إلا هدر المال والوقت والجهد، بينما يسهل على الطالب الحصول على ما يحتاجه من خبرة ومهارة بعد ظهور وتعيين الحاجة في وقت أقصر وجهد وتكلفة أقلّ.
واليوم أكتب عن هدر الوقت والجهد والمال والعبادة في معصية أكبر: الالتزام في الدّين بقولٍ أو فعلٍ لم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه ولا صحابته ولا متّبعي سنته في القرون المفضلة رضي الله عنهم أجمعين؛ وإلى القارئ الكريم بعض الأمثلة:
أ) ربما كان أكثر الالتزام بما لا يلزم متعلّقاً بكتاب الله العزيز مثل:
1 – تعلُّم أكثر من قراءة والتباهي بالجمع بين سبع أو عشر قراءات، وإنما أنزل الله كتابه على سبعة أحرف وأقرأه النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه رضي الله عنهم على وَجْهٍ قد يختلف في اللفظ قليلاً عما أقرأه غيرهم تيسيراً للأمة وبُعداً بها عن العَنَت والعُسْر فضلاً من الله ونعمة، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 22]. والجمع بين القراءات علماً وعملاً وتعليماً، ولَيُّ بعض القرّاء المحْدَثين ألسنتهم بقراءات ليست معروفة ولا مألوفة لعامة المصلين أو لا توافق لغاتهم ولهجاتهم تَعْسير لما يسره الله، وتكلف لم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم ولا فقهاء الأمة في القرون المفضلة رحمهم الله.
2 – المبالغة في الالتزام بقواعد التجويد المتداولة في هذا العصر، وأخص الإمالة والقلقلة الكبرى والإشمام والسكتات اللطيفة والإدغام والاخفاء والترقيق ونحوه المخالف للمألوف من لغة العرب في جزيرة العرب؛ وقد أفتى الشيخ ابن باز رحمه الله بتاريخ 1415/11/13هـ بعدم وجود دليل شرعي يعلمه على وجوب الالتزام بقواعد التجويد المعروفة وبيّن أن الترتيل المأمور به في قول الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] إنما يعني التّمهّل والتّرسّل. كما نفى وجود دليل شرعي على وجوب الالتزام بقواعد التجويد المعروفة: الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وعزا القول بذلك إلى الشيخ ابن سعدي رحمه الله. كتاب العلم (ص:171).
ولم يذكر المجَوِّدون دليلاً لوجوب الالتزام بقواعدهم إلا بيت الناظم: (والأخذ بالتجويد حَتْمٌ لازم)، وشرع الله لا يثبت بالنظم ولا بأقوال المؤرخين ولا بكثرة المقلِّدين، بل بالدليل من كتاب الله أو سنة رسوله أو سنة خلفاء رسوله.
3 – الجمع في التلاوة بين آيتين (فأكثر) بحجة ارتباطهما في المعنى، وقد فَصَلهما الله تعالى فيما أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِدْ عن النبي ما يخالف الفصل أو يوافق الوصل مرة واحدة وحاشاه أن يخالف شرع ربه، بل ورد عنه الوقوف على رأس كل آية طاعة لله والتزاماً بقضائه.
ولو احتج ملتزم الجمع بين الآيتين بالعجلة من أمره أو التخفيف على نفسه أو غيره لكانت المعصية أصغر، أما دعوى تبيان المعنى فهو استدراك على الله تعالى وعلى شرعه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه المبينْ.
4 – التزام الربط بين آيتين (عند الوقوف على رأس الآية) باعادة قراءة آخر الآية قبلها مثل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ} [البروج: 8] {العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البروج: 8–9] تكلّفاً مبتدعاً، والربط بين الجُمل في الآية الواحدة مثل: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ} [الحشر: 23] بإعادة قراءة كلمة أو كلمتين: {المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ} بلا دليل شرعي صحيح صريح أو حَسَن لذاته أو لغيره أو ضعيف.
5 – التزام بعض العوام وضع المصحف (بعد الانتهاء من التلاوة) على غلافه الأخير مما يلي المعوذتين، وتجنب وضعه على رفّ خلف المصلين أو قريباً من الأرض، ونحو ذلك من الأنساك الأعجمية.
6 – وفي المقابل التزم الأكثرون (الأقلّون) بإهمال الالتزام باتباع السنة في التلاوة: الترتيل بمعنى التّرسّل والتّمهّل، والوقوف على رأس كل آية، وفصلها عن الآية قبلها وبعدها، وذكر الله في آخر الآية بما يناسبها.
7 – والتزموا بما يخالف السّنة من زخرفة المصاحف عامة وحَوْل الفاتحة وبداية البقرة خاصة، والتزموا بما لم يكن عليه أمر النبي وأصحابه من التحزيب والتجزئ ونحوهما.
ب) وتكثر أيضاً الأمثلة المتعلّقة بالصّلاة ومنها:
1 – عزل مصلّى النساء عن مصلى الرجال، وأسوأ ما يكون حين لا ترى المُصَلِّيَةُ الإمام ولا من وراءه زيادة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم: تأخير صفوف النساء عن صفوف الرجال وإفرادهن بباب للخروج (مع وجود مرضى القلوب وتيسّر العزل بحائط أو ساتر في عهده).
2 – نقل الصلاة والخطبة والدروس بمكبرات الصوت بلا حاجة. وليس في السنة إلا تبليغ الأذان خارج المسجد وتبليغ التكبير عند الحاجة، ويرى الشيخ بكر أبو زيد تبليغ الإقامة استنباطاً من عدة أحاديث؛ مثلما ورد أن الصلاة تقام فيذهبون إلى الخلاء خارج المدينة ثم يدركون الركعة الأولى. وكنت أحسب أن الإقامة تبليغ لمن في المسجد والأذان تبليغ لمن كان خارجه، والله أعلم.
3 – دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح والسّجع فيه وتلحينه وإطالته.
4 – تغيير المصلِّي مكانه لصلاة النافلة بعد الفريضة، و«خير صلاة الرّجل النّافلة في بيته»، ويكون الفصل بينهما بالكلام أو الخروج وَفْق النّصّ.
5 – صلاة ركعتين تحيةً للمسجد قبل ركعتي نافلة الفجر، ظناً من العوام وأشباههم من المقلِّدين أنها لا تكفي عنها النّافلة أو الفريضة.
6 – المبادرة بعد السّلام من الفريضة إلى المصافحة وأداء النافلة، وأعمّ منه: المبادرة بالتهليل عشراً بعد فريضة المغرب والفجر أخذاً بلفظ الأثر: (وهو ثانٍ رجله) وهو لا يصح، والأَوْلى: أن يُقَدَّم التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين الثابت في الصحيحين، وما في درجته من الذكر.
7 – التزام ذِكْر الحوادث الماضية (مثل الهجرة والمولد وغزوة بدر والإسراء)، أو الحاضرة (مما تتناقله الصحف والإذاعات والإشاعات) في خطبة الجمعة، وقراءة آيات في الصلاة تناسبها، وخَتْم الخطبة بآية: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] مما لم يكن عليه الأمر الأوّل، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه رضي الله عنهم يخصّون الخطبة بالثوابت الشرعيّة من الآيات والأحكام والموت وما بعده.
جـ) ومن الأمثلة العامة لالتزام بعض المسلمين ما لا يلزمهم بل وما لم يشرعه الله لهم:
1 – ترك العمل يوم الجمعة اقتداء بسبت اليهود وأحَد النصارى، وقد قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: 10]، فلا قُرْبَة لأحد منهم بالابتداع.
2 – الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول وبرأس السنة الهجرية اقتداء باحتفال النصارى بمولد عيسى عليه السلام وبرأس السنة في نهاية كل عام وبداية الآخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً وبذراع» [متفق عليه].
ولم يثبت إلا أنه ولد يوم الأثنين ولم يُذْكر إلا في الصيام. ويوم بعثته أولى من يوم مولده لو كان من شرع الله جَعْله عيداً فإنما ميزه الله بالبعثة.
3 – الاحتفال بالإسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب، وبليلة القدر ليلة سبع وعشرين من رمضان ولم يثبت في تعيين ذلك شيء من حيث الزمان ولا من حيث الأمر أو العمل أو التقرير أو الفضل إنما هو الهوى.
4 – الرّمز للإسلام والمسلمين بالهلال اقتداء بنجمة اليهود وصليب النصارى. ويقال: أن أول من استعمله رمزاً: الفُرْس، ولا يزال بعض النصارى يتخذونه رمزاً دينياً، قبل أن يكتشفه مبتدعة المسلمين.
5 – تحريم التعامل عامة بين المسلم وغير المسلم وفَرْض المقاطعة التجارية أحياناً، ولم يقاطع رسول الله صلى الله عليه وسلم تجارة كتابي ولا وثني حتى فارق الدنيا ودرعه مرهون عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، ولم يشرع الله ذلك مع أن الله قص في كتابه قول بعضهم: {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وقولهم: {إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] وقول بعضهم: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] وقولهم: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، وقال الله تعالى عن الأبوين المشركين اللذين يجاهدان ابنهما على أن يشرك بالله شيئاً: {فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، بل دخل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار مشرك. وظنّ كثير من الجاهلين ومنهم بعض أكبر القائمين على جماعة الإخوان المسلمين: تحريم زواج المسلم من الكتابية (مذكرات الدعوة والداعية لحسن البنا ص(203)، ط. الزهراء) مع أن الله قد أحله في محكم كتابه: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].
6 – استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند الدعاء بعد السلام عليه.
7 – عزو النقل من كتب العلوم الشرعية إلى المصنّف الأوّل، والسّجع في عناوينها خلافاً لما كان عليه فقهاء القرون الأولى، وموافقةً لتكلف من بعدهم، وللقانون الأوروبي بحفظ حقوق التأليف والطبع.
8 – استعمال البوصلة في تحديد عين القبلة وتعديل صفوف المصلين وَفْقَها، وقد صح في الأثر: «القبلة ما بين المشرق والمغرب» في مثل المدينة النبوية، إضافة إلى أن البوصلات تختلف اختلافاً بيّناً كما نبّه إلى ذلك الشيخ د.بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء رحمه الله في رسالته عن تحديد القبلة.
ومثله استعمال المرصد لتحديد بداية ونهاية شهر رمضان وبداية شهر ذي الحجة وإهمال الرؤية (المعيّنة شرعاً قولاً وعملاً) خارج بلاد الدعوة على بصيرة.
9 – الاجتماع للعزاء في بيت أهل الميت ثلاثة أيام، وأسوأ منه تقديم أهل الميت الطعام أو الشراب للمعزِّين، وكان الصحابة رضي الله عنهم يَعُدُّون ذلك من النياحة المحرمة كما ورد في صحيح الأثر عن جرير رضي الله عنه. صحيح ابن ماجه (ص:1612).
10– الزيادة على المصافحة والدعاء بالمعانقة والتقبيل عند التعزية والتهنئة بالعيد والزواج، ولم يَعْرِفْ ذلك أهل جزيرة العرب إلا في القرن الخامس عشر، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الانحناء والالتزام والتقبيل عند لقاء المسلم أخاه فقال: «لا» لكل ذلك، وقال: «نعم» للمصافحة وحدها.
11– الصعود على جبل عرفات يوم عرفة ظنّاً بأن العمود المُحْدَث فوقه من شعائر الله، وهو مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم ومن المبتدعات في الدين، وليس من مناسك الحج الواجب أخذها عمن قال: «خذوا عني مناسككم» صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته وسلم.
12– شَكْل المئذنة والمحراب والقبّة والأقواس البيزنطية الموصوف زوراً بالعمارة الإسلامية في بناء المساجد، ولم يكن للمسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مئذنة (فضلاً عن مآذن) ولا قبة (فضلاً عن قبب) ولا محراب (فضلاً عن محاريب) ولا أقواس، ولا بأس بما دعت إليه الحاجة من محراب أو مئذنة لسد الحاجة لا لذاته، وما زاد على ذلك فهو إسراف والله {لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، والتعبّد بالشكل المبتدع معصية كبرى، والله الموفق.
(1429هـ).