خلط الظن باليقين (نقد فكر مجلة البيان)

خلط اليقين بالظن (نقد فكر مجلة البيان)

بسم الله الرحمن الرحيم

استبشرت بصدور العدد الأول من مجلة البيان (التابعة للمنتدى الإسلامي بلندن)، فقد أعلنت افتتاحية العدد عن انتماء المجلة للمنهاج النبوي في الدعوة ورغبتها في نشر الاعتقاد الصحيح والسنة والتحذير من الشرك والبدعة دون أي انتماء آخر ودون تحزّب ولا تعصّب، ولكني بعد قراءتي أكثر من عدد رأيت في واقعها ما يخالف دعواها؛ فهي إلى الفكر أقرب منها إلى الفقه، وإلى اتباع الظن والهوى أقرب منها إلى اتباع الوحي، وإلى العاطفة أقرب منها إلى التثبت.
رأيتها تحاول الجمع بين الزبد وبين ما ينفع الناس، وتختار حيناً طريق الحكمة وهي الشريعة وتختار أحياناً طريق الفتنة.
وبعد سنوات من قطع اشتراكي فيها وصلني العدد 89 ـ محرّم 1416 دون محاولة للحصول عليه (وكُنْتُ معه مثل أحد الزملاء لم يشتر سيجارة واحدة ولم يمتنع من تدخين سيجارة أُهْدِيَتْ إليه)؛ فقرأت العدد (مع سابق ظني أنه لا يساوي ثمنه وأن ضرره أكبر من نفعه) ووجدته عند سوء ظني به؛ فليس فيه مقال واحد عن أهم ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، لا عن أركان الإسلام ولا عن أركان الإيمان، ولا عن إحياء سنة أُمْيتت ولا عن مكافحة بدعة أحدثت في دين الله.
وكتبت لأخي في الدين (وفي وطن الدعوة إليه) رئيس تحرير المجلة:
أ- لم يكن أكبر هم كتبة مجلتكم ـ فيما قرأت من أعدادها ـ تعريف المسلمين بما يجهله أكثرهم من معنى لا إله إلا الله: إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه، وأكثرهم يتقرب إلى الله بأول وأسوأ مظاهر الشرك الأكبر منذ قوم نوح حتى تقوم الساعة (تعظيم ودعاء أصحاب القبور وأضرحتهم ومقاماتهم ومشاهدهم ومزاراتهم)، وهو أعظم المعاصي وأكبر الكبائر لا يغفره الله وإن غفر ما دونه لمن يشاء.
ب- ولم يكن أكبر همهم النهي عن التصوف وخرافاته، ولا الذبح للخلق ولا الحلف بغير الله ولا التسمّي بعبد النبي ولا مختلف البدع المنتشرة في كل بلدٍ (خارج حدود دولة التوحيد والسنة) إلا النادر (والنادر لا حكم له).
ج- أكثر مقالات المجلة تعقيدات فكرية وتحليلات سياسية، وتتبع كل ناعق (وبخاصة معلم المنتدى والمجلة الأول (محمد سرور) المهاجر من أرض الشام المباركة إلى أوروبا النصرانية).
د- في هذا العدد ـ على سبيل المثال ـ ينصح بعض كتّابكم (ببيان الحق وتعرية الباطل)، وبعضهم ينهى عن (تصنيف الناس) وبعضهم يوصي (بانشغال طالب العلم الداعي إلى الله بعيب نفسه عن عيب غيره) ويوجب بعضهم (إبانة سبيل المؤمنين وإسقاط اللافتات الزائفة عن سبيل المجرمين وتعرية باطلهم وخداعهم).
كيف يمكن للمسلم الداعي إلى الله أن (يبين سبيل المؤمنين) وهو الحق (وسقط اللافتات عن سبيل المجرمين) وهو الباطل (ويعرى باطلهم وخداعهم) دون (انشغال بعيوب الغير) ودون (تصنيف)؟ وهاهم كتّاب المجلة الدائمون يصنفون المسلمين بين (منافقين وعلمانيين) بما في ذلك من تكفيرٍ وحكمٍ على القلوب وتجاوزٍ لحدود علام الغيوب.
هـ- وفي هذا العدد (قصيدة) باسم (سعودي) ص104 تَنَاقِص ادّعاءكم في افتتاحية العدد نفسه (المنهجية العلمية الرزينة):
1) مَن الذي: (جاء في كفه خيط وإبرة يكمم أفواه الناس وعيونهم)؟
2) ومَنْ هم: (الرّجال الجُوف حوله يعينونه على الغدر)؟
3) ومتى: (رُشّت الأرض بالدماء) غير دماء المجرمين؟
4) وللشريعة أم المصلحة (يستعذب [المالكي] الدّماء ويتعطش للثورة)؟
5) ومن أي يتمنى أن: (تجيء جرثومة) المرض الذي اختلط في علقه (بالخصب)؟ ومن الثوريين الإسلاميين الأعَاجم أم العرب وهم جميعاً يبنون أو يحمون الأوثان (الإسلامية)؟
6) ومن يعني (بالعميان والسحر والغبار والكاهين)؟ غير العلم وكبار العلماء؟
7) (النجمان) الآفلان قبل (تكبيلهما) ألم تُصْرَف لهما الرواتب وتُفْتَح لهما المعاهد والمساجد للتعلم والتعليم والدعوة قبل أن ينحرف أحدهما عن العلم إلى الفكر ويزداد الآخر انحرافاً على انحراف، ويتعاونا على فتح أبواب الفتنة بين المسلمين وولاة أمرهم بالتحليلات السياسية القاصرة والتهييج العاطفي التائه، فأوصى كبار العلماء بعزلهما حتى يرجعا؟
8) هذه بعض الملحوظات حسب فَهْم من تجاوز الستين وتخرّج من كلية الشريعة قبل نحو أربعين سنة (وكان من مشايخه عبد الرزاق العفيفي في التوحيد ومحمد متولي شعراوي في اللغة ومحمد حسين الذهبي في التفسير وعلي الهندي في الفقه)، فكيف يفهمها شباب الصَّحوة ولا سلاح لهم ولا زاد غير العاطفة والحماس الأهوج؟
9) ولم تصلني إجابة محدّدة عن ملحوظة واحدة بما يخالف فهمي لها.
و- وبعد بضعة أشهر وصلني ـ بلا طلب ـ العدد 94، ولم يكن خيراً من سابقه، بل كان محافظاً على النهج الفكري السّروري (غير المحمدي)، يا حسرة على العباد (مواطني بلد ودولة الدعوة إلى الله على بصيرة بخاصة) يتنكبون عن منهاج النبوة ومنهاج تجديدها الذي نشأوا عليه وميزهم الله به ويلتزمون الفكر المنحرف عنه.
     وكتبت لأخي في الدين (وفي وطن الدعوة إليه) رئيس التحرير:
1) في هذا العدد ص59 عاد شاعر (أو ناثر) المجلة (الإسلامية) يستوري زناد الفتنة في أرض التوحيد والسنة (خاب مسعاه).
2) عاد عدو نفسه (وعدو الإسلام والمسلمين وهو يحسب أنه يُحْسن صُنعاً) يلهث وراء دعوة الشر والفساد في الأرض، يُنْكر فضل الله عليه بالانتماء لهذه البلاد والدولة المباركة المميزة بنعم الله بالدين والدنيا، ويَرُدّ المعروف نكراً والنعمة كفراً. (وإذا مات قبل أن تَقَرَّ عَيْنُه بالفتنة) حقق الله ذلك، فإنه (يأمل أن تأتي الفتنة بعده بسببه) خيّب الله أمله وكفى الإسلام والمسلمين شرّه وشرّ كلّ ذي شر.
3) جمع عدو نفسه وغيره كل ما لقنته شياطين الإنس والجن (في منظومته أو منثورته) من مترادفات ألفاظ الشر والفساد والحقد والغل:
(المخاص، النّطع، الاشتعال، الطّوفان، الدم، الجمر، المواجع والتكبيل) والمُكّبَّل ـ في الحقيقة هو عقل الشاعر بقيود التقليد الفكري المخالف لشرع الله.
4) أعود للسّؤال (ولا جواب): من (سلب حقّ) هذا المنكر نعمة الله؟
كان أهله فقراء فأغناهم وأغناه الله بدولة الدعوة إلى الحق، وكانوا خائفين فآمنهم الله وآمنه بها، وكانوا جائعين فأطعمهم الله وأطعمه بها، وأهم من كل ذلك كانوا ضالين فهداهم الله وهداه بها فلا يَرَى فيها قبراً مشرفاً ولا تمثالاً ولا مسجداً بني على قبر، ولا يرى بدعة ظاهرة، ولا طعاماً أو شراباً أو مُحَرَّماً، ولا يرى فاحشة ظاهرة، بل يرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله على منهاج النبوة بلا تحزب ولا تعصب لبشر غير معصوم، ويرى الحكم بشرع الله وحده في الاعتقاد والعبادات وأكثر المعاملات.
5) وأسأل رئيس التحرير: مَنْ ذهب إلى النطع والمقصلة (التي جلبها شاعر المجلة من تاريخ الثورة الفرنسية الظالمة) لأنه قال أو فعل خيراً أو صمت عن شر؟ أما دعاة الفتنة والخارجين على الجماعة والسنة وولاة أمرهما فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرَّق جماعتكم فاقتلوه رواه مسلم برقم 1852.
ولكن ولاة الأمر يكتفون ـ عُذْراً بجهل هؤلاء المفسدين أو تأوّلاتهم الباطلة ـ يكتفون بعزلهم عن جماعة المسلمين ـ كما يُعْزَل المريض عن المُصِح ـ ما لم يكن في رقابهم حقٌّ لغيرهم فيؤخذون به، بل إن بعضهم يعزل نفسه بالهجرة من أرض التوحيد والسنة إلى بلاد الشرك والبدعة، وذلك خير للإسلام والمسلمين، وكذلك ترجف الأرض المقدسة فيزمن الدّجال الفتان ليخرج منها كل من ينطوي قلبه على حب الفتن والشقاق والغل والحقد على ولاة المسلمين وعلمائهم ودعاتهم على منهاج النبوة.
ز- وبعد بضع سنين وصلني كتاب المنتدى (دمعة على التوحيد)، وبدا لي أن مجلة البيان تحاول إصلاح ما فسد منها في الماضي بإعطاء الأحكام الشرعية (وبيان توحيد الله بالعبادة والتحذير من وثنية الأضرحة والمزارات) نصيباً من اهتمامها وإن كان أقل مما يجب على مؤسسة تُمَوَّل من بلاد الدعوة إلى التوحيد والسنة ومحاربة الشرك والبدعة. فكتبت لأخي رئيس التحرير شاكراً ومنوّها بهذه الخطوات الصالحة:
1) أهم معيار لصحَّة العبادة والدعوة: مراعاة أول وأهم ما أمر الله به وهو إفراد الله بالعبادة على منهاج النبوة وأول وأهم ما نهى الله عنه وهو الشرك به في عبادته وما دون ذلك من الابتداع في دينه، وهو ما بَدَأْتُمْ تتجهون إليه اليوم ثَبَتَكم الله عليه.
2) جزاكم الله خيراً على ِإشارتكم إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتقديمها مثالاً صالحاً للدعوة إلى الله على بصيرة، ولكن الكاتب قصّر في الإشارة إلى ما قدمته الدولة السعودية الأولى ثم الثانية وأهمل الإشارة إلى ما قدمته الدولة السعودية الثالثة في سبيل تجديد الدين والدعوة بالعودة بهما إلى ما كانا عليه في عصر النبوة والخلافة الراشدة إذ أسّست الدول الثلاث على ذلك من أول يوم وهو ما لم يَحْدُث منذ القرون المفضلة، مع أن عنوان مقاله: (سيف السياسة بين نصرة الحق ومظاهرة الباطل) وجميع دول المسلمين منذ بداية الفاطميين حتى نهاية العثمانيين بين مُظَاهر للباطل وساكتٍ عليه باستثناءٍ واحد: دولة آل سعود في مرحلها الثلاث.
3) لم يشر الكاتب إلى بعض أسوأ مظاهر الشرك الأكبر في بلاد المسلمين مثل مقامات الخضر التي يجتمع على تقديسها بعض المنتمين إلى الإسلام والسنة وإلى الدرزية وإلى النصرانية، ومثل ما يسمّى ـ زوراً ـ بالحَرَم الإبراهيمي الشريف، وهو منذ القدم معبد أوثان، ويجتمع على تقديسه اليهود والنصارى وأكثر المنتمين إلى الإسلام والسنة.
4) جناية دولة آل عثمان على الإسلام والمسلمين تتجاوز تعصّبها العنصري وظلمها وطغيانها على حماية الأوثان والبدع والخرافات ومحاولة القضاء على تجديد الدين والدعوة في جزيرة العرب بغزوها وهدم عاصمتها الدرعية وقتل أو نفي أئمتها وعلمائها ودعاتها مما شبّهه الدكتور صالح العبود وَوَصَفه الدكتور سليمان بيومي بالحرب الصليبية.
5) ضمَّ الكاتب كل ولاة أمر المسلمين إلى رَكْب الفساد والابتداع في الدين، وهذا ظلمٌ لا يُقِرُّه إلا الفكريون والحركيون والحزبيون الموصوفون بالإسلاميين، وقد ذكرْتُ في المقال ـ قبل سطرين ـ مثالاً لدولة تجديد الدين والدعوة (السعودية) ومثالاً لدولة الظلم ومحاربة تجديد الدين والدعوة (الخرافة العثمانية).
والغالب أن الفساد الديني في هذا العصر يبدأ وينتهي بعامّة الناس، وإذا وافقهم الحاكم أو العالم ـ كما هي الحال في أكثر بلاد المسلمين اليوم ـ فإنما ذلك لكسب رضاهم، والحاكم بَشَرٌ من طينة المحكومين (لا من الجن ولا من الملائكة)، وتجب طاعته فيما يأمر به من معروف، ومعصيته فيما يأمر به من منكر، ولا أعلم أحداً من ولاة المسلمين ولا الكفار أمر بعبادة أوثان المقامات والمشاهد وهي أكبر ما عُصِي الله به منذ قوم نوح.
6) الكلام عن (العوامل النفسية والاقتصادية والسياسية) في هذا الأمر من الظن والتعقيد والتكلف، ولا داعي لتكلف أسباب تعبيدة ظنية للضلال وقد بين الوحي اليقيني أهم سببين للضلال: النفس والشيطان، ويلحق بهما القدوة الفاسدة: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرفك 23] ، ” فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه وكلها أسباب قريبة، ولا عُذر في الشرك لأي (عامل).
ج- وبعد سنوات قرأت مقالاً لرئيس التحرير (د.عادل السليم) عن أوليات الدعوة إلى الله، فشكرت الله الذي هداه له وكتبت إليه:
1) أحمد الله ثم أشكركم على أن أَرَيْتُم قرّاء المجلة وجهاً آخر للدعوة هو الحق: (بيان أن أول أوليات الدعوة الأمر بإفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه).
2) وإذا كان الراعي في المجلة (وهو مسؤول عن رعيته) يقرر هذا المنهاج الشرعي المتفق عليه والثابت بأدلة الكتاب والسنة فلماذا لا يركز كتّاب المجلة عليه عوضاً عن التركيز على التحليلات الفكرية السياسية الساذجة (مثل آثار حادثة 11سبتمبر، وقد استنكر التركيز عليها (بضع سنين) الأستاذ عبد الرحمن العبد الكريم في بريد قرّاء المجلة جزاه الله خيراً)؟
وفق الله الجميع لأقرب من هذا رشداً.
الرياض/ 1425هـ.