القول على الله بغير علم

القول على الله بغير علم

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد القرون المفضلة المتميزة بالاتباع والفقه في الدين، انحدرت الأمة في قرون التخلف إلى حضيض التقليد الجاهل والتعصب المذهبي، وانحرفت فئة من جهلة العباد إلى التأسي بعبَّاد اليهود والنصارى، وانحرفت فئة من المفكرين المناهضين للتقليد إلى إخضاع النصوص الشرعية لشطحات الفكر الوثني، تصديقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع»، قالوا: اليهود والنصارى؟.. وفي رواية: فارس والروم؟ قال: «فمن الناس إلا أولئك» [متفق عليه].

ولم يستثن الانحراف الفكري الفقه في كتاب الله ووحيه: إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فجاء من كبار مفكري الصوفية من يؤول الآية المحكمة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، بما يناقضها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، أي: ستروا محبتهم لله عن غيرهم {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} يا محمد {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بك لأنهم لا يأخذون إلا عني، {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} فليس فيها إلا محبتي، {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} فلا يسمعون إلا مني، {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 6-7] فلا يرون إلا إياي [الفتوحات المكية لابن عربي ج1، ص115].

وبمثل هذا التحريف عن مواضع الكلم أُوِّل قول الله عن قوم هود: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} ظنوا بالله خيراً وهو عند ظن عبده به؛ فأخبرهم بما هو أتم وأعلى ـ في القرب ـ من المطر، {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ}؛ فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة، {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]، أي: أمر يستعذبونه إذا ذاقوه [الفصوص والحكم لابن عربي، ص109].

وحين لا يبلغ الانحراف هذا المبلغ، تُدنَّس التفاسير ـ بعد عصر الصفوة ـ بالقصص الإسرائيلية، والروايات المكذوبة والسفسطة العقلية، من ذلك ما روي بغير سند صحيح عن فتنة داوود عليه السلام، وقصة الغرانيق، وما أول به محكم قول الله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]. قال السيوطي رحمه الله في تفسير الجلالين: (واختص العقل ذاته، فليس عليها بقادر).

وفي هذا العصر الذي رغب فيه العرب عن لغة الكتاب والسنة، واحتضنوا لغة الجريدة والإذاعة، استُبيح حمى التفسير فلم يتورع عنه المثقف الجاهل بشرع الله؛ استباحه الخطيب والواعظ والكاتب والطبيب والمهندس، وكل من هب ودب وهان عليه القول على الله بغير علم.

وصار من مسلّمات مفسري العصر، والمخدوعين بزيهم وألقابهم (مثلاً):

1- أنّ الله لا يؤمن من غضبه وعقابه إلا المصلحين، أما الصالحون فلا أمان لهم استدلالاً بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، فإنه لم يقل الصالحون.

وغاب عن إدراكهم أن كلمتي: (الصالحين) و (المصلحين) وردتا في كتاب الله بمعنى واحد؛ قال الله تعالى في غير الأنبياء من بني إسرائيل: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]، وقال تعالى في عدد من الأنبياء: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 86]، وقال تعالى في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:114]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

وورد وصف المصلحين بالصالحين ـ والعكس ـ في آيات كثيرة، ولكن التدبر قليل؛ إذ شُغل مكانه بالتنطع والتشدق والفيهقة، وبالحفظ والتجويد الذي لا يتجاوز الحناجر، نسأل الله المغفرة والهداية للجميع.

2- أن الله لا يضيف إلى نفسه من العباد إلا الصالحين، استدلالاً بقوله الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

ولم تتسع عقولهم لحقيقة أن الكل عباد الله صالحهم وطالحهم؛ قال الله تعالى: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وورد المعنى بلفظ (عبادك) و(عباده) و(عبادي) في آيات وأحاديث كثيرة.

3- أن الله قدم السمع على البصر بياناً لأهمية الأول في مثل قوله تعالى: {أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ} [يونس: 31]، وقال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيرا} [الإنسان:2]، فلم يردعهم مثل قول الله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وقوله تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26]، عن القول عليه بغير علم.

4- أن الله قدم البشارة على الإنذار في وصف الرسل، دليلاً على فضل الأولى ـ على الثاني ـ في منهاج الدعوة، مستدلين بقوله الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِين} [الأنعام: 48]، وقوله تعالى: {بشيراً ونذيراً} [البقرة: 119].

وضاقت أفهامهم عن استحضار قول الله تعالى: {إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2]، وقوله تعالى: {إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: 11]، والآيات مثلها كثيرة.

والسبب الأول في نقص المدارك أن العلم بشرع الله فقد الشمول والإحاطة والتدبر ـ الذي كان سمة للأئمة الأول ومن سار على نهجهم ـ ومُليء فراغه بالألقاب الدراسية المغربة والزي المبتدع، (ومسخت الجوامع) فتحولت جامعات لإعداد الموظفين (كما يروى عن طه حسين رحمه الله).

ولأن المطابع ودور النشر والمكتبات التجارية تقول دائماً: هل من مزيد؟ فإن أدعياء العلم الشرعي مستعدون لاغتنام فرص الكسب من الغنائم الباردة: مزيج من النقل الحرفي والفكر الضحل، ثم يتوج الناتج بحفظ حقوق الطبع والتأليف، وحظر النقل والاقتباس، خلافاً للمثل المصري: (السارق من السارق كالوارث من أبيه)

ولأن شباب ما يسمى بـ(الصحوة الإسلامية) ـ بقوة حماسه وضعف بصيرته وقلة تثبته ـ مندفع لتشجيع واستهلاك كل ما يوصف بالإسلامي والإسلامية من كتاب وشريط وخدمة تجارية؛ فإن الوراقين والكتَّاب والحركيين والحزبيين (الإسلاميين) مستعدون لاستغلال فراغه وعطشه وجِدَتِه بكتب التفسير والسير، والخطب والدروس الفكرية و(تجييرها) للمصلحة الفردية أو الحزبية.

والحصيلة النهائية: مساوئ كثيرة وخطيرة، أكبرها: القول على الله بغير علم في الحاضر، والمرونة على ذلك في المستقبل، إن لم يتدارك ولاة الأمر من المسلمين ـ علماء وأمراء ـ هذا الأمر، ويردوه إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه، وفقه صحابته والهدى في القرون المفضلة. وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.

كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين عفا الله عنه، تعاوناً على البر والتقوى وتحذيراً من الإثم والعدوان.